ذكريات مراسل صحفي في ولاية تگانت.. (الحلقة الثانية)
بعد
نقص حاد في الأمطار وانحسار سريع للعشب والكلإ؛ شهدته المناطق الرعوية في
البلاد خلال عام 2011، أطلقت الحكومة خطةً استعجالية؛ توخت من ورائها -
كما صرحت - توفيرَ القوت اليومي للمواطنين الضعفاء، وإنقاذ ما تبقى من
المخزون الوطني من الماشية، المهدد بالنفوق في أي لحظة.
افتتحت
دكاكين "أمل" هنا وهناك في ولاية تگانت، أغلبها في مناطق لا تحوي أكثر من
أسرتين أو ثلاثة، تلبيةً لرغبة هذا السياسي المتنفذ أو ذاك.. والذي يجب
على الوالي وفريق برنامج "أمل" امتثال رغباته خوفا من بأسه، أو طمعا في
جاهه.
في صف المحرومين..
ومتابعةً
لهذا البرنامج الطموح ركزنا في تلك الفترة - خلال مراسلاتنا - على أحداث
الريف وأهله.. وهكذا أَثَرْنَا في هذا الصدد وبطريقة مهنية؛ قضيتين:
إحداهما تتعلق بقرية "فرع الجيه" في بلدية الواحات، والأخرى تخص دكان أمل
"العرقوب الجنوبي" لتجگجه.
عندما
تزور قرية "فرع الجيه" يكتوي قلبُك وأنت تطالع الحرمانَ مُجَسَّدًا.. تراه
بعينيك.. تلامسه في أوجهٍ بدوية بائسة؛ تُمنع السقايةَ من بئر ارتوازية
شيدتها الحكومة بحجة "الحفاظ على المرعى"؛ لأن "من تَعَوَّدَ أن يَرِدَ
بئرا فقطعانه ستأكل مرعى المنطقة"!..
تشتعل
فيك نار الغضب وأنت ترى حرمانَ أطفال قرية "فرع الجيه" من مدرسةٍ يتعلمون
فيها، ورغم أن عددهم يتجاوز 100 طفل إلا أن أقربَ مدرسة إلى قريتهم - ويقال
إنها شُيِّدت لهم! - تبعد 38 كلم.
أذكر
في هذا الصدد أن سكان القرية؛ قاطعوا رئاسيات 2014 احتجاجا على رفض طلبهم
بفتح مدرسة لأطفالهم، وهو شكل من أشكال الاحتجاج الفعّال يَنِمُّ عن وعي
مبكر؛ بدأ يغزو تلك المناطق التي تناوشها البؤس والنأي..
دكان
أمل "العرقوب الجنوبي" اختيرت له فتاة في مقتبل العمر، متعلمة وتحمل في
حقيبتها شهادة "متريز" في الاقتصاد من جامعة نواكشوط، وبعد اجتيازها
الامتحان - الذي أجرته مفوضية الأمن الغذائي (الجهة المسؤولة عن الدكاكين) -
وقّعت عقدَ عمل مع المفوضية..
انقلاب على مُسَيِّرَة دكان أمل ومحاولة لرشوتي..
بهذا
الدكان وفضيحته - وبعد توقف "أخبار موريتانيا" - بدأتُ مشوارًا جديدا مع
موقع rim24.info الذي يديره الصحفي الكبير أحمد ولد اسويدي (وله كل الشكر
والامتنان على الرعاية التي حظيتُ بها لنقل أخبار تگانت خلال تلك
المرحلة)..
وفي
تقريرنا عن تلك الفضيحة هبت نسائم - عفوا سَمُومُ البشمرگة - مدافعةً عن
المفوضية وحاكم تجگجه؛ اللذين اتهمتهما الفتاةُ بتدبير "الانقلاب" عليها،
وتسليم مفاتيح الدكان لأخي عمدة "انبيكه"..
في
ذلك التقرير اشتكت الفتاة إلى رئيس الجمهورية؛ راجية رفع الظلم عنها،
مطالبة باستعادة وظيفتها.. اهتز عرش محمدو ولد محمدو (مفوض الأمن الغذائي
آنذاك)، وضغط على أهل الفتاة؛ من أجل التحرك لإخماد الحريق بأي طريقة
ممكنة..
اتصل خالُ الفتاة (وهو آنذاك أمين عام بلدية تجگجه) بالموقع، لكن إدارتَه أحالته على المراسل..
توجه
الخالُ إلى "أحدهم" فحَرَّرَ له ردًّا؛ يتضمن نفيًا مطلقًا لتقديم الفتاة
أية شكوى من "الانقلابيين"، ووقَّعه بصفته خالا للفتاة، وهو ما أزعج
الأخيرة.. فحين اتصلنا بها مستفسرين؛ رفضتْ أن يتكلم أيُّ شخص باسمها حتى
ولو كان خالَها.
وجددت
طلبَها لرئيس الجمهورية بالتدخل لاستعادة حقها المسلوب "المبيع".. ودعمنا
حديثَها الأخير بصور أكدت خلالها صحة خبر rim24 المتعلق بها..
بعد
نشر هذا الخبر تَحَسَّسَ الرجالُ جيوبَهم، واتصل بي أحدهم من انواذيبو -
كما قال - طالبا سحبَ الخبر ونفيَه، عارضا في نفس الوقت ما يلزم من المال
لذلك!..
وهو
عرضٌ لم أستطع تلبيته - مع للأسف - رغم حاجتي الماسة - في ذلك الوقت - إلى
المال لتسوية أمور من بينها - على الأقل - تجديدُ رصيدِ الانترنت الذي
ستنتهي صلاحيته بعد 14 ساعة.
موقع يتاجر بمراسلاتي..
وبما
أن الصحافة العربية تحظى بمتابعة أكبر نسبة من زوار الانترنت في
موريتانيا، ولأن rim24 موقع ناطق باللغة الفرنسية؛ فقد رأيتُ أن أزود
المواقع العربية بما تيسر من أخبار الولاية..
وهكذا بفضل القُصاصات التي كنت أبعثها إلى انواكشوط؛ واكبتْ مواقعُ: الحرية، الطوارئ، الأخبار، أقلام حرة... أخبارَ ولاية تگانت..
وكانت تلك المواقع جميعا على قدر المسؤولية ما عدا موقع .............. الذي أرجح أنه تاجرَ ببعض مراسلاتي!..
ففي
إحدى المرات أرسلتُ لهم خبرا يتعلق بإصابة أكثر من 40 شخصا بالتسمم؛ نتيجة
شربهم لمياه ملوثة، بعد أن منعهم أشخاص متنفذون من وُرُودِ بئر ارتوازية
شيدتها الحكومة، وبعد ساعات من نشر الخبر اتصل بهم عمدة الغدية - كما كتبوا
- فسارعوا إلى نفي الخبر، مقدمين اعتذارا رسميا مُوَقَّعًا باسم إدارة
الموقع، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الرجوع إلى مراسلهم، ولو من باب "مشورة
فم الگربه"..
"مراسلون" تدخل على الخط..
مرت
الأيام تترى.. مراسلَةٌ هنا وأخرى هناك، إلى أن حل نوفمبر (شهر
موريتانيا)، وولدت صحيفة "مراسلون" الإلكترونية، فكان ما كان مما ستحدثُ به
الأيام في شوارع وأزقة ولاية تگانت..
وقبل
أن أسترسل في الحديث، أجدني مضطرا إلى الاعتراف بأن "مراسلون" تَسَنَّمَتْ
- وبشهادة كثير من المتابعين - هرمَ أخبار الولايات الداخلية..
في "مراسلون" تحدثنا عن العادات الغذائية للسكان.. عن اهتمامات الناس.. عن الظلم البواح.. عن النجاحات.. عن التدشينات.. عن.. وعن...
توالى
نشر أخبار الولاية بشكل متسارع، الأمر الذي جعل البعض يحار في كثرتها، بل
ويتهم موقعَ "مراسلون" أحيانا باختلاق أحداث لا وجود لها!..
والواقع
أن هذا أمرٌ طبيعي حين يتعلق بولاية ظلت أخبارها تُصادَر، وأحجم مراسلوها
عن نقل كثير من الأخبار، حفاظا على مصالحهم الشخصية..
أصبح
موقع "مراسلون" بعد وقت قصير صَدًى لأخبار الولاية وأحداثها، من الوجبات
الشعبية الخاصة بموسم الگيطنه (شكط والجغفه...) وكيفية تحضيرها، إلى صراعات
الشباب والشّيب في السياسة وفي الرياضة..
واصلت "مراسلون" نقل أخبار تگانت صغيرها وكبيرها.. ومن خلالها اطلع العالم على:
- تحكم المتنفذين في رئيس مركز الرشيد الإداري (هجرانه لمقر عمله، وسكنه في تجگجه طيلة السنة بدل قرية الرشيد)؛
- هدمُ سَدٍّ خاص في بلدة "القدس" لأن صاحبَه عارض أحدَ الشيوخ؛
- إغلاق طريق عام لأنه كان على مقربة من بيت نَافِذٍ في "النيملان"؛
- استغلال الحاكم للنفوذ، وتهديده الدائم للأهالي.
-_فذات يوم
من أيام "خطة أمل 2011" مررتُ بجانب مبنى مقاطعة تجكجه ، فإذا بأصوات
النساء مرتفعة.. أخرجت رفيقتي العزيزة (الكاميرا) على الفور، حيث سجلت
ما يلي: نسوة يستنكرن تهديد الحاكم المساعد لهن بالضرب؛ إن هن لم ينصعن لأوامره!
ما
إن نشر الخبر حتى غضب "سيدنا" الحاكم، وأرسل مفوض الشرطة في طلبي.. حيث
استقبلني في مكتب المفوض، وبعد درس طويل - وغير ضروري - عن وجوب احترام
الدولة وهيبتها وموظفيها؛ صادر الكاميرا ظنا منه أنه بحذفه للفيديو يمكنه
محوه من الشبكة العنكبوتية، من يدري ؟..
وبعد
ساعات من المد والجزر؛ استفسرت حضرتَه حول وضعي: هل أنا معتقل فأرتاح إلى
جانب إخوتي من رجال الأمن، وإلا فبودي الخروج من هذا البيت الضيق الساخن..
سَلَّم
الكاميرا للمفوض ووضعها هذا الأخير في خزانة المكتب، وسمح لي بالذهاب،
آمرا إياي بعدم تكرار الأمر، وبعد يومين أعاد لي المفوض الكاميرا..
الوالي يتخلى عن جرحى الدرك الذين كانوا يُؤَمِّنُون موكبَه
تعاقبت الأحداث، وتغير اسم بلدية "انبيكه" لتصبح "تامورت النعاج"، وأصبح لها مهرجان؛ نُظِّمت منه لحد الساعة نسخة يتيمة..
ذات
يوم ولّى الناس وجوهَهم نحو مدينة "انبيكه"، قاصدين مهرجانها، وعلى بعد 19
كلم وبالذات قرب قرية "نوجهنا"؛ انقلبت سيارة الدرك الوطني التي كانت
تُؤَمِّنُ خلفية موكب الوالي، وأصيب ركابها العسكر إصاباتٍ تفاوتت بين
الخطيرة والمتوسطة..
ورغم
رجوع سيارة أخرى للدرك من المقدمة؛ لم يتوقف حضرة الوالي، وبعد دقائق
عَلِمْنَا بالخبر - ولأن شبكة الانترنت رديئة في تلك المنطقة - اتصلتُ
هاتفيا برئيس التحرير، ونُشر خبرٌ يروي كيف تَخَلَّى ممثل رئيس الجمهورية
في ولاية تگانت عن رجال أمنٍ كانوا يُؤَمِّنون موكبه!!
وصل
الوالي والتقى الوزراءَ الحاضرين، وأعلن منظمو مهرجان الزراعة
بـ"التامورت" حدادا على شقيق رئيس الجمهورية المتوفى قبل أيام رحمة الله
عليه، وَصَدَحَ أهل الفن المتحمسين لإنجاح مهرجان مدينتهم ..
عدنا
إلى تجگجه، وفي يوم الغد استدعاني الوالي، وحاول اللعب بالكلمات قبل أن
يطلب مني تكذيبَ الخبر المتعلق بانزلاق السيارة، لأنه لم يتجاهلها - كما
قال - بل ظل على اتصال بهم حتى وصلوا العاصمة نواكشوط..
شكرتُه
على الخبر الجديد.. أما الخبر السابق فهو - يا سيدي - كالشمس في رابعة
النهار، ومنعرج "نوجهنا" لا يزال نَدِيًّا بدماءِ الحادث.. فضلا عن أنني
وقفتُ على مكانه بعد 30 دقيقة من وقوعه، والتقيتُ سائقَ السيارة والشهودَ
الذين حملوا الجرحى لإسعافهم!!
يتواصل..
في الحلقة القادمة: تتصاعد وتيرة الأخبار، وتشتد ردة الفعل حتى يأمر وكيل الجمهورية بتوقيفي...
ذو علاقة بالموضوع:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق