في الحاضر الجاثم على صدور الضعفاء والفاعل بما قال السادة الأقوياء ومنذ الأزل ظلت قصة حانية على شفاه الكون تأبي النسيان تتراءا تفاصيلها حروف منقوشة على أجنحة طيور البحر الحائمة، وجارية عبر الأخاديد التي حفرتها دموع المفجوعين
زورق قذفت به أمواج محيط هادر، وعلى ألواحه دقدق الموج المتلاطم تلاطم القدر الساخط، أحلاما لشابان رمت بهم صروف النوى من حيث مخالب القدر الجارحة، إنها حجب الغيب المنسدلة دون القضاء الرابد خلف السماء، نعم كان حلما جميلا ذلك الذي راود تلك الأرواح الجامحة، والطامحة لفردوس ما وراء البحار من أين أبدأ والحكاية لم تنتهي كل يوم قصة ومأتم، لأشخاص ذنبيهم أنهم عاشوا المنفى في الوطن، تذوقوا طعم الفناء فوجدوه ارحم من نوم بلا سكن، وعيش بلا وطن ، وموت بلا كفن، تجشموا عناء الغياب من أجل حلم طارت به عنقا مغرب. وفي عرض البحر ذرفت عيون الرجال آخر العبرات، ونطقت أفواههم آخر العبارات لا شيء إلى الصراخ والعويل، وعضلات مفتولة هدها التعب، وهي تسبح في عرق المحاولة الأخيرة لترويض البحر بمجاديف خشبية، بعدما كتم الموج أنفاس محركات "الديزل" كل يقبض على قلبه متسائلا متى وأين تكون التجدفة الأخيرة، وبين السؤال والجواب، فاصلة من الرعب والخوف المميت، وفي تلك اللحظات العصيبة، بدأ شريط الذكريات المرة يتراقص أمام مخيلة عمر والتي كانت من الدوافع التي دفعته إلى ركوب الخطر كيف أن خطيبته باعت نفسها لذلك الشاب المغمور، القادم من إسبانيا، بدراهم تفوح منها رائحة الصحون والأحذية، وكيف ماتت أمه وهو يقبض على فاتورة الدواء بيد وبأخرى يمسح دموع الفجيعة والعزاء، وكيف أن أخته لالة التي تستحي من ظلها، أخذت تخرج للشارع لتعليه هو وإخوته الصغار، وتذكر بمرارة بالغة والده البدوي الذي يقدس البقر إلى حد العبادة. انحدرت من عينيه دموع ساخنة ليسند رأسه إلى صديقه أحمد المائل للغروب والمتلاشي خلف الغيوم السابحة نحو المجهول وتمتم بكلمات خافتة كخيوط شمس ذلك اليوم الشتائي القاسي، إنها الشهادة نعم يا صاحبي أنها الشهادة. لكن أحمد قاطعه قائلا في تلعثم، هل نحن مجاهدون أو فاتحون إذا متنا، أجابه عمر في توتر، نعم نحن مجاهدون من أجل لقمة العيش وحبة الدواء، نعم نحن فاتحون للمخازن المسلوبة، نحن صرخة من عرق الجياع، وشبح من ظلال الجنوب، لم يقطع ذلك الحوار بينهما إلا صوت ضعيف إنها ليلا المغاربية التي تطلب ماءا حاول عمر جمع ما تبقى لديه من قوة لكنه لم يفلح، وأمام إلحاحها تمكن أحمد من إنجادها، لتحكي لهما بعد ذلك، حكايتها قائلة اعتاد أبي على ضرب أمي، وفي يوم مشؤوم من أيام الشجار دفعت أمي أبي ليسقط على رأسه ميتا. تقول ليلى سجنت أمي ولم يبقى لدي إلا أخ وهو مدمن بدأ يأخذني إلى أوكار الدعارة والبغاء، فكرت كثيرا في الانتحار، لأنني أحسست بأن وجودي في هذا العالم خطأ، أخذ عمر يهدأ من روعها، ويقول لها أنت فتاة جميلة، ولا شك أن كثيرا من الناس كانوا يحترمونك ويحبونك، لكنك لم تمنحيهم الفرصة ليعبرون لك عن ذلك. قالت ليلى لو أنني سمعت رأيا كرأيك في ما تركت بلادي، شكرا على أي حال على المجاملة، وإلى جانهم كان أمدوا السينغالي، يحكي حكايته وهو يقول أنا خامس أربعة إخوة قضوا واحدا تلو الآخر، وهم يطرقون أبواب أوربا بحثا عن الحياة الكريمة أو ردا لجميل، وادنا المشلول والذي كان من المحاربين القدماء الذين دافعوا عن فرنسا في وجه النازية العمياء. تراءى الزورق تتقاذفه والأمواج تتقاذفه، وكأنه أيقونة تتهادى على صدر حسناء جامحة، وعلى ظهر هذه الأيقونة، حفر القدر اسماءا تختصر قصة قارة وتحب وتحلم وتعشق وتتعذب، وما هي إلى لحظات من الانتظار، حتى صرخ أحدهم أضواء أضواء أضواء إنها اسبانيا، وأخذ يصرخ ويضحك وهو يقول وأخيرا الجنة المحرمة، فردوس الأفارقة المفقود، ساد جو الفرح ذلك الزورق الصغير. ابتسم أحمد وهو يمد يده نحو صديه عمر وما إن مسك يده حتى هبت رياح هوجاء ليتوارى الزورق في خضم ثورة البحر الهائج، رحل الزورق في أحضان الهمس، دمعة تضاجع الغياب لتذكي شهوة الانطفاء، رحل ليتحول كل اسم إلى رقم في مقبرة المهاجرين على الشاطئ الإسباني، حسبهم أنهم قضوا من أجل البحث عن وطن لم يوجد إلا في خيالاتهم. لم ينجوا من ذلك الزورق غير عمر الذي قذفته الأمواج على شاطئ بعيد، فتح عينيه وهو يتلمس بيديه المرتعشتين تلك القطع الخشبية المتناثرة هنا وهناك على طول الشاطئ وقد كتب على كل قطعة اسم أو رقم أو سطر من قصة لم تنتهي، جال ببصره وهو يرى أحذية وقمصان لأشخاص قدرهم أن لا يعودوا لليابسة، صرخ صرخ بأعلا صوته، حتى استيقظ فإذا به على فراشه، وصديقه أحمد إلى جانيه فانكب عليه وهو يبكي ويقبله، حتى استيقظ أحمد هو يقل هل هو الكابوس عاودك ثانية، عانقه وهو يقول نعم يا صاحبي.
عبـد الرحمن ولد هاشم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق